الفكر
الإسلامي
الحرية
السياسية في الإسلام
بقلم : الأستاذ محمد رجاء حنفي عبد المتجلي
لقد قرّر الإسلام «الحرية السياسية» في جميع مبادئه وكل نظمه ، وإذا كان معنى الحرية بلغة العصر الذي نحيا فيه أن يعطي كل فرد عاقل رشيد الحق في أن يشترك في إدارة الدولة ، وشئون الأمة ، ويلاحظ أعمال السلطة التنفيذية عن طريق الاستفتاء العام ، إذا كان هذا هو مفهوم «الحرية السياسية» في العصر الحديث ، فإن الإسلام قد عرف هذا المفهوم تطبيقًا وعملاً منذ وجد .
وتأكيدًا لهذا المبدأ، أمر المولى تبارك
وتعالى ، رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، وهو الذي لاينطق عن الهوى ، بأن يشاور
المسلمين في أمورهم، وألاّ يبرم أمرًا دونهم ، يقول عز وجل: ﴿فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيْظَ القَلْبِ
لاَنْفَضُّوْا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَأوِرْهُمْ
فِي الأمْرِ(1)﴾ ، و: ﴿وأمْرُهُمْ شُورٰى
بَيْنَهُمْ(2)﴾ .
وكان
أساس الشورى عند المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أن يأخذ بما أجمع عليه الصحابة –
رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - ، أو استقرّت عليه أغلبيتهم ، ومثال ذلك ما حدث
في غزوة «بدر»،
حيث نزل رسول الله ﷺ وجيشه مكانًا غير
ملائم للمعركة حربيًا، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح ، الذي كان خبيرًا بهذه
الأمكنة التي نزل فيها المسلمون ، ولم يرق في عينه الموقع الذي استقروا فيه ، ولم
يطمئن إليه : «يا
رسول الله: أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدّمه أو نتأخّر
عنه ؟ .. أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟»
فقال صلوات الله وسلامه عليه .. «بل
هو الرأي، والحرب، والمكيدة»،
فقال الحباب: «يارسول
الله ! فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزل ، ثم
نغور ما وراءه من الآبار، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء ، ثم نقاتل القوم فنشرب
ولا يشربون».
وحينئذ
فكّر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه فاقتنع بهذا الرأي السديد ، وأعلن أمام
المسلمين أنه قد نزل على رأى الحباب ، وأن في ذلك الحكمة والصواب .
ولمّا
نفّذ المسلمون رأى الحباب وبنوا الحوض قال سعد ابن معاذ – رضي الله تعالى عنه - : «نبني
لك عريشًا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزّنا الله وأظهرنا
على عدونا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من
قومنا، فقد تخلّف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشدّ لك حبًا منهم ، ولو ظنّوا
أنك تلقى حربًا ما تخلّفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك».
وقد
أثنى المصطفى صلوات الله وسلامه عليه على سعد ودعا له بخير؛ لأنه قدّر الظروف وعرف
أن مكان القائد هو الإشراف والتوجيه ، فلا ينبغي أن يتعرّض للأخطار ، لأن في حياته
حياة الأمة وكرامتها وكيانها ، ثم بنى العريش للمصطفى صلوات الله وسلامه عليه ،
حتى يكون بمأمن من العدو إذا لم يكن النصر في جانب المسلمين .
وكما
حدث – أيضًا – في شأن أسرى (بدر) الذين عرض رسول الله ﷺ
أمرهم على المسلمين ، يستشيرهم ويترك لهم الخيار : أيقتلون؟ .. أو يطلق سراحهم
مقابل فداء يدفعونه ؟ .. فأشار معظم الصحابة بقبول الفداء ، وقال أبوبكر الصديق
وكان أكثر الناس رحمة وعطفًا: «يا
رسول الله بأبي أنت وأمي، قومك منهم الآباء والأبناء والعمومة ، وبنو العم ،
والإخوان ، وأبعدهم منك قريب ، فامنن عليهم منّ الله عليك أوفادِهم يستنقذهم الله
بك من النار ، فتأخذ منهم ما أخذت قوّة للمسلمين ، فلعلّ الله أن يقبل بقلوبهم».
وأشار
فريق آخر من المسلمين في مقدّمتهم عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه - . وسعد بن
أبي وقّاص – رضي الله تعالى عنه – بقتلهم جميعًا، قال عمر: «يا
رسول الله : هم أعداء الله ، كذّبوك ، وأئمة الضلال ، يوطئ الله بهم الإسلام ،
ويذل بهم أهل الشرك» .
وقد
تلطّف المصطفى صلوات الله وسلامه عليه مع صاحبَيه الكريمَين أبي بكر وعمر، فضرب
لهما أمثلة من الملائكة والأنبياء ، فأما أبوبكر فمثله في الملائكة كمثل ميكائيل
ينزل برضا المولى تبارك وتعالى وعفوه عن عباده ، ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم –
عليه السلام – كان ألين على قومه من العسل ، قدّمه قومه إلى النار وطرحوه فيها ،
فما زاد على أن قال: ﴿فَمَنْ تَبِعَنِىْ فَإِنَّه مِنّى وَمَنْ عَصَانِيْ
فَإنَّكَ غَفُوْرٌ رَحِيْم(3)﴾ ، وكمثل عيسى – عليه السلام – إذ
يقول: ﴿إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ وإن تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإنَّكَ أنْتَ الْعَزِيْزُ الحكِيْم(4)﴾ .
وأمّا عمر فمثله في الملائكة كمثل جبريل
ينزل بالسخط من المولى تبارك وتعالى على أعداء الله عز وجل ، ومثله في الأنبياء
كمثل نوح – عليه السلام – إذ يقول : ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ
الكَافِرِيْنَ دَيَّارًا . إنَّكَ إنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوْا عِبَادَكَ وَلاَ
يَلِدُوْا إلاّ فَاجِرًا كَفّارًا(5)﴾ ، وكمثل موسى – عليه
السلام – إذ يقول : ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلـٰـى أمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ
عَلـٰـى قُلُوْبِهِمْ فَلا يُؤمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيْمَ(6)﴾
.
ومال
المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إلى رأي أبي بكر الصديق ، فليس كالعفو شيء يفتح
القلوب المغلقة ، فافتدى الكثير من الأسرى أنفسهم، ومن لم يستطع افتداء نفسه وكان
يحسن القراءة والكتابة ، كانت فديته أن يعلّم عشرة من أبناء المسلمين ، وقد عفا
رسول الله ﷺ عن بعضهم بغير فداء
.
وبعد
تنفيذ القرار في شأن الأسرى نزل القرآن الكريم معاتبًا على اختيار الفدية عن التخلّص
من أسرى الوثنية ، كما يشير إلى شرائع الأنبياء السابقين في مثل هذه الظروف ، بيد
أن العتاب لم يكن على إطلاق سراح الأسرى والمنّ عليهم بالفداء، ولكن على نفس الأسر
أثناء المعركة ، أي: على عمل تكتيكي حدث أثناء القتال ، وهو اكتفاء رسول الله ﷺ
بإنهاء المعركة بأقلّ ما يمكن من الخسائر في أرواح زعماء «قريش»
.
إن
المصطفى صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم أن بعضهم قد خرج مكرهًا ، ومن بينهم رجال
من «بني
هاشم»
، والبعض الآخر سبق أن طالب بنقض «الصحيفة»
التي كانت بمثابة مقاطعة اقتصادية لـ «بني
هاشم»
و «بني
عبد المطلب»
، والتي اتّفقت «قريش»
بمقتضاها على ألاّ يتزوجوا من نسائهم ، ولا يبيعون لهم شيئًا ، ولايشترون منهم،
ولا يخالطونهم ، ولا يقبلون منهم صلحًا ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلّموا رسول
الله ﷺ
للقتل ، واستمرّت هذه المقاطعة المروّعة ثلاثة أعوام لم يجرؤ أحد من «بني
هاشم»
و «بني
عبد المطلب»
خلالها أن يدخل «مكة»
، ومد ذلك فقد ضربوا أروع الأمثال في الصبر والاحتمال .
ثم
أذن المولى تبارك وتعالى لهذا الليل الطويل أن ينجلي ، فقام خمسة من كرام الرجال
فشقّوا صحيفة المقاطعة وأعلنوا نقضها . وحينئذ خرج «بنو
هاشم»
و «بنو
عبد المطلب»
من هذا السجن الضيّق المميت إلى معترك الحياة .
ولقد
اعتبر رسول الله ﷺ عملهم هذا حسنة
تجزى بمثلها ، أمّا المسلمون الذين آثروا الأسر على القتل فقد كانوا قلّة ، وإن
كان بعضهم كان يرجو من استبقاء الأسرى عرض وأخذ الفداء ، يقول المولى تبارك وتعالى
: ﴿مَا كَانَ لِنَبيّ أنْ يَكُوْنَ لَه أسْرٰى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الأرْضِ تُرِيْدُوْنَ عَرْضَ الدُّنْيَا وَالله يُرِيْدُ الآخِرَةَ وَاللهُ
عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ . لَولاَ كِتَابٌ مِن اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيْمَا
أخذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ(7)﴾ ، فالمولى تبارك وتعالى ينهى عن
اتّخاذ الأسرى قبل الإكثار من قتل الكفّار ، ويعيب على من يريد عرض الدنيا، ولولا
حكم سابق من الله – عز وجل– بألاّ يعاقب مجتهدًا على اجتهاده مادام القصد خيرًا؛
لان العذاب الأليم .
وتأكيدًا لمبدأ «الحرية السياسية» قرّر الإسلام أن اختيار الخليفة موكول إلى المسلمين ، وأن
الخلافة الشرعية هي ما كانت نتيجة بيعة حرّة ، ذلك : لأنه لم يرد في كتاب الله –
عز وجل – ولا في سنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه تفصيل في نظام الحك وكيف يكون ،
وإن القرآن الكريم قد جعل الشورى أساس الحكم في الإسلام : ﴿وَشَاوِرْهُمْ
في الأمْرِ(8)﴾ ، و : وأَمْرُهُمْ شُورٰى بَيْنَهُم(9)﴾
. وعلى هذا لأساس الديمقراطي الإنساني النبيل : ولي الحكم الخلفاء الراشدون ، ولم
يكتف الإسلام بذلك، بل أوجب على السلطة التنفيذية ألاّ تبرم أمرا م أمور الدولة فيه
خطورة ومسؤولية إلا إذا رجعت فيه إلى المسلمين ، وأن هذه السلطة مسؤولة أمام
الأمّة عن كل ما تعمله في حدود اختصاصاتها العامة .
ونذكر
على سبيل المثال ، مّايؤكّد هذا المعنى في وضوح: ماجاء في خطبة أبي بكر الصديق ،
حين مبايعة المسلمين له بالخلافة .
يقول
الخليفة الأول أثر بيعته : «إني
ولّيت هذا الأمر ، وأنا له كاره ، ووالله لوددت أن بعضكم كفانيه ، ألا وانكم ان
كلّفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله – ﷺ
– لم أقم به ، فإن رسول الله – ﷺ
– عبد أكرمه الله بالوحي وعصمه به ، ألا وإنما أنا بشر لست بخير من أحد منكم ،
فراعوني ، فإن رأيتمون استقمت ، فاتبعوني وإن رأيتموني زغت فقوّموني».
وكان
بقية الراشدين ، وخلفاء المسلمين ، وحكّامهم إذا حدث أمر خطير يتّصل بأمن الدولة
وسلامتها ، أو حدث من الشؤون مالم توضع له قواعد من قبل ، إذا حدث هذا : كان
الحكاّم والأمراء يجمعون أهل الحلّ والعقد وذوى الرأي منهم ، ويستشيرونهم ، أو
يستفتونهم ، وينزلون على رأى الأغلبية منهم ، وذلك تمشّيًا مع مبدأ الشورى
وتطبيقًا لروح الإسلام .
وبهذا
نستطيع أن نقول : إن النظام السياسي في الإسلام لم يتّخذ لون الحكم التيقراطي ، أي
: السلطان الديني الذي عرفته مصر الفرعونية ، وأوروبا في العصور الوسطى ، ولا لون
الحكم الأرستقراطي ، أي : سلطة طبقة الأشراف والنبلاء.
لقد
كانت حكومة أبي بكر الصديق حكومة شورية ، بويع فيها بالانتخاب العام ، واستمدّ
سلطة الحكم من الذين بايعوه في حدود كتاب الله – تبارك وتعالى – سنّة رسوله –
صلوات الله وسلامه عليه - . وهذا الحكم المقيّد خاضع لرقابة المسلمين جميعًا ، لكل
فرد أن يحاسب القائم بالأمر ، وليس لطائفة أن تستأثر بأمور الحكم بما تمتاز به على
غيرها من الطوائف .
والباحث
في عهد الصديق – رضي الله عنه – يرى أن تصرّفه كان غاية في الحرص على الالتزام
بكتاب الله – عز وجل - ، والتأسّى برسول الله – ﷺ
– في الرعية ، والتنزّه عن كل مطامع الدنيا وزينتها ، ثقة منه بأن من ساس أمور
الناس ، فأفاد لنفسه منها كان ظالماً لنفسه ، وللناس جميعًا .
إن
انتخاب رؤساء الجمهوريات في العصور الحاضرة ليس بأكثر من بيعة أبي بكر الصديق التي
أنشأتها الشورى ، والحرية الكاملة المقيّدة ، وقد جاء أول خطاب له موطّدًا ومثبتًا
أسس وقواعد هذه الشورى .
«لقد
ولّيت عليكم ، ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوّموني ، أطيعوني ما
أطعت الله فيكم ورسوله ، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم».
هاتان
الفقرتان تدلاّن في إقرار صريح على حقّ الرأي العام في مراقبة الخليفة وإرشاده ،
وبحق الناس في العصيان إذا عصى القائم أمر الله ، وصدف عن أمره ، كما تدلاّن على
أن الإسلام أخذ بمبادئ الحرية السياسية ، بما لم تصل إليه أحدث الديمقراطيات في
العصور الحاضرة.
حواشي
:
(1)
الآية (159) من سورة آل عمران .
(2)
الآية (38) من سورة الشورى .
(3)
الآية (36) من سورة إبراهيم .
(4)
الآية (118) من سورة المائدة .
(5)
الآيتان (26 ، 27) من سورة نوح .
(6)
الآية (88) من سورة يونس .
(7)
الآيتان (67 ، 68) من سورة الأنفال .
(8)
الآية (159) من سورة آل عمران .
(9)
الآية (38) من سورة الشورى .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ربيع الأول – ربيع الثاني
1427هـ = أبريل – مايو 2006م ، العـدد : 3–4 ، السنـة : 30.